البداية عند حدود معرفة المجهول..ظفار.. السحر الذي في الناس وفي ذاكرة المكان 1-2
كل شيء في ظفار له قصة تستحق أن تروى. ولابد أن تكون البداية عند حدود معرفة المجهول هكذا ظفار». [1] من يعرف ظفار لا يستطيع إلا أن يجعل لها نبضاً حياً من دقات قلبه. هكذا هي ظفار. تجد لنفسها دائماً في سويداء القلب أعز مكان. ساكناً كنت أو ثائراً أو زائراً أو عابراً. ظفار أرض من كوكبٍ مختلف ونزق مختلف. أرض من قسوة وترف.شهادتي فيها مجروحة. هي ليست مسقط رأسي فقط. هي ذاتي وكياني وروحي. صدقاً عندما أنطق اسمها أحس قلبي يسبق أنفاسي شوقاً لها. حتى وأنا على ثراها الغالي، لا يكبح الشوق لظفار زمان ولا مكان. إنها ظفار، أسطورة عشق، وآيات جمال منذ أن أبدعها الخالق.أي سحر فيها وأي سر، أمر ليس من اليسير تفسيره، فأجمل الأسرار تلك المكنونة، وأقوى السحر ذاك المجهول.
«في الجنوب الغربي من سلطنة عمان تقع ظفار. وتشغل حالياً مساحة شاسعة من الأراضي العمانية تقدر بـ 117 ألف كيلومتر مربع، أي نحو 40 ألف ميل مربع، وهو ما يعادل 33,33%، أي ما يعادل أكثر من ثلث المساحة الإجمالية لسلطنة عمان». [2] «تعد ظفار من أكثر مناطق العالم تباينا في التضاريس، حيث إنها تضم نماذج متعددة من أشكال الأرض متباينة بين السهول والجبال والصحاري (النجود)». [3]تاريخ ظفار ضارب في القدم، ففيها مدينة سمهرم التي تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، تلك المدينة الملونة بالأساطير. معالمها التاريخية هي الأكثر شهرة في ظفار. «فقد برز ميناؤها كأهم الموانئ لتصدير اللبان والبخور في العالم القديم، وقد اكتشفت هذا الميناء البعثة الأثرية التي يترأسها ويندل فليبس، إذ وجد بقاياه على الحافة الشرقية لـ’’خور روي’’ على بعد ثلاثة كيلومتر من طاقة». [4]من أغرب الأساطير والخرافات التي تشاع حول «خور روي» أو مدينة سمهرم، أن جميع الساحرات والسحرة من شرق العالم وغربه، يعقدون اجتماعهم السنوي على أطلال تلك المدينة البائدة. أذكر جيداً فترات الطفولة، كيف كنت أرجف خوفاً عند مرورنا بالقرب من ذلك الخور خوفاً من الجن والسحرة. أذكر القصص التي تروى عن اجتماعهم وأصوات الجن الضاجة فيه وصفير الرياح. يُعرف يوم «الاجتماع» المشؤوم من خلال هذه الأصوات، ومن المخلوقات الغريبة التي تخرج من الخور. تقطع المخلوقات الشارع باتجاه البحر بسرعة مخيفة. تنتقل السحرة إلى أطلال المدينة العريقة على ضفاف «خور روي»، ممتطية ثور بثلاث قرون، أحمر العينين، ودخان كثيف يخرج من أنفه.
بوابة العزل
«بوابة مطرح تفتح وتغلق» أو «بوابة مطرح تمشي وتطرح». لا أذكر كلمات تلك اللعبة بالضبط. كنت أكتفي بمشاهدة الأطفال يلعبونها من دون أن أشارك في اللعب كعادتي. لكن كانت هذه أفضل لعبه أحب التفرج عليها. اثنان من الأطفال يرفعون أيديهم إلى أعلى وتتشابك أصابعهم ليشكلوا البوابة. يطوف الأطفال من بينها إلى الضفة الأخرى. عندما يصلون في نشيدهم إلى كلمة «أغلقت»، يطبق الطفلان ساعداهما على رقبة أحد الأطفال العابرين ليخرج بعدها من اللعبة وهكذا. شاهدت هذه اللعبة وأنا طفلة. لكني لم أفهمها إلا بعد أن كبرت. الآن سيكون الحديث مختلفاً وأكثر وضوحاً من لعبة الأطفال. عرفت أن عزلة ظفار هي جزء من العزلة التي شهدتها عمان بعد انهيار الإمبراطورية العمانية وتقسيمها بفعل مخططات الاستعمار. وهي نتاج آخر للصراع والتناحر القبلي بين قبائل ظفار، إضافة إلى منع السفر والهجر في عهد سعيد بن تيمور.
نداء الثورة
كنت أحب سماع القصص كثيراً. لذلك أميل للجلوس مع كبار السن حيث حديثهم قصص رائعة ومشوقة. أحب كبار السن وأجد حديثهم ممتعاً لأنهم يجيدون سرد القصة. أسمع قصصهم بانقطاع. أسمع أمجادهم وتفاخرهم بطولاتهم فترة الحرب. لم تكن تهمني الحرب ذاتها أو أهدافها. إنها مجرد قصص تسرد لطفلة تتذكرها قبل أن تنام. اليوم باتت الكتب تروي لي القصة وبت أجيد ربط ذاك بهذا. يأتيهم النداء «أيها الشعب العربي في ظفار. لقد قامت طليعة ثورية منك آمنت بالله والوطن وجعلت حريته مبدأ اتخذته للتحرر من حكم سلاطين آل بوسعيد الطغاة الذين ارتبطت سلطنتهم بجحافل الغزو الاستعماري البريطاني. إن هذا الشعب أيها الإخوة قد ذاق مرارة العيش أزمنه طويلة، الأمر الذي أدى إلى التشرد والبطالة والفقر والجهل والمرض (...) لقد أراد الله لنا الحياة وأرادوا لنا الموت وإرادة الله هي الحق التي يجب أن ترتفع خفاقة فوق هذا الجزء من الوطن العربي الكبير. (...) نستصرخ فيكم الروح العربية الأصيلة أن تقفوا صفاً واحداً أمام هذا الوضع الفاسد ونطالبكم جميعاً أن تلتفوا حول رجال جبهة تحرير ظفار لنشكل جميعاً سداً منيعاً أمام هذا الطغيان. [5]تتجاوب قبائل ظفار مع حملات رجال الثورة من لجان الصلح بين القبائل، وتشتعل جبال ظفار ناراً لحماية الثوار، ويهجر أبناء المدن المدينة ويشقون طريقهم نحو تلك الطرق الوعرة للجبال لحاقاً بالثوار. يلتف الجميع حول الثوار قلباً وقالباً. يربطون بطونهم من الجوع بعد الحصار الخانق ويصرون على الاستمرار في الثورة حتى آخر رصاصة وآخر قطرة دم. حصار، تجويع، قصف بالطائرات، والظفاريون في جبال ظفار يصرخون بصوت واحد «عاشت الثورة وعاشت الأمة العربية وليسقط الاستعمار».
عجوز ظفار
«هل زار أحد جبال ظفار تلك الأيام؟ هل عاشوا فيها؟ هل رأوا الناس يربطون الحجارة على بطونهم؟ هل رأوا الثياب الممزقة والأجساد النحيلة من الجوع؟ هل رأوهم وهم يرفضون الاستجابة للإغراءات التي كانت تلقى عليهم منشورات من الطائرات؟ هل لمسوا رفضهم حتى الذهب إلى حوف في اليمن حيث قيادة الثورة وأنصارها؟ هل لمسوا ذاك الإصرار؟ هل سمعوا ذاك القول: ولدنا في جبال ظفار ونموت فيها؟ حتى يأتوا اليوم ليكتبوا أو يؤلفوا؟» قال ذلك رجل تجاوز السبعين من العمر. قالها بحماس ابن العشرين ربيعاً عندما حدثه أحد الشباب أنه قرأ في كتاب عن الثورة. كنت طفلة تسمع. أتذكره حين أردف قائلاً: في أحد أيام الخريف حيث الضباب يكسو المنطقة، بحيث لا ترى يديك إن مددتها أمامك، كنا ضمن إحدى فرق الثورة العسكرية مجموعة لا نتجاوز الخمسة عشر رجلاً، وإذا من بين الضباب امرأة عجوز تركض باتجاهنا وتقول وهي تلهث «في المكان الفلاني - أي على بعد نحو ثلاثة كيلومترات منا - الجيش». ثم وقعت مغمى عليها. بسرعة فائقة رسمنا خطتنا للتصدي لهم معتمدين على معرفتنا لطبيعة المنطقة وتعودنا عليها. حاول أحد رفاقنا مساعدة العجوز وحين عاد لها الوعي قالت: أمازلتم هنا؟ هم كثيرون وسيقتلونكم - وبكت. فقال لها: لا عليك يا خالة، نحن سنقتلهم جميعاً ولو تريدين أن تشهدي ذلك بنفسك فاجلسي على تلك التلة.قالت: هل لي يا بني أن أطلب منكم طلباً؟ قلنا بصوت واحد: اطلبي. قالت: لا تقتلوا الظفاريين. معم ثلاثة رجال ظفاريين. قال أحدهم: بل سنقتلهم شر قتلة أولائك الخونة المتخاذلين. دار هذا الحديث ونحن نسير إلى حيث رسمنا في خطتنا. قالت يا بني لقد أمسك رجل أحمر كافر بي وأنا أرعى غنمي وقال قيدوها حتى ننهي المهمة، ثم أطلقوا سراحها. فرفع الظفاري بندقيته في وجهه وقال مخاطباً إياي بالجبالية: دش أتفرق أخلتي (لا تخافي يا عمتي). ثم خاطب الأحمر بالعربية قائلاً: إذا لم تتركها سأقتلك. وعلى الفور رفع الجنود بنادقهم في وجهه فقام الظفاريان بالوقوف إلى جواره وتوجيه بندقيتهما للجند. ضحك الأحمر وقال: دعوها تذهب ويُمنع الإمساك بالنساء مهما فعلن. هل رضيت؟ما إن أنهت قصتها حتى كنا قد وصلنا للمكان فلم نجد غير أمتعتهم من غير الأسلحة، يبدوا أنهم انسحبوا سريعاً.ثم أنشد قصيدة سالم العطار العمري شاعر الثورة:«قصة شعبنا والثورة يرويها العراك الضاريقصتنا تثير كل شعب فقيروأصحاب الضمير والمبدأ جملة كم بها من أطواريفي ذاك النهار ثار الشعب ثارمن ربوة ظفار قد أعلن زحفه للعدو بالناري»هذه إحدى القصص التي أتذكرها قبل النوم وأنا طفلة. وحكايات الأطفال الذين يموتون على الطريق وهم ذاهبون سيراً على الأقدام من جبال ظفار إلى حوف مرددين: سنتعلم، فحين تنتصر الثورة بلادنا بحاجة لأقلامنا وعقولنا أكثر من بنادقنا ودمائنا. هكذا علمتهم الثورة: نحن علينا الدم والأرواح، وأنتم عليكم بناء المستقبل والحضارة.
قبيلتنا.. قبيلتكم
كنت جالسة على عتبة بوابة بيتنا القديم في واحدة من أوائل مدن صلالة عاصمة ظفار مدينة الدهاريز في إحدى حواريها القديمة. أشاهد الأطفال من في سني وهم يلعبون كثيراً من الألعاب الشعبية والتي تحمل كثير منها معاني فهمتها عندما كبرت. نعم، جالسة أنظر إليهم من دون أن أشاركهم في اللعب، ففي كثير من الأحيان يتحول اللعب لديهم إلى معارك طاحنة ليس لي قبل بها، وإذا بقريب يأتي لإخوتي الصبية قائلاً: بعد مباراة كرة القدم اليوم ضربنا أولاداً من بيت فلان وقد يأتون لضربكم. المضروبون هم جيراننا وأخواتهم زميلاتي بالمدرسة. قلت لأخي بعد ذهابه: لقد كرهت ذلك الولد كيف يضرب أولاد جيراننا. فقال: أيتها الغبية ذاك من قبيلتنا ولو كنت موجوداً لضربت ابن جيراننا حتى لا يمد يده ثانية على أبناء قبيلتنا. نظرت لأخي مصدومة: تضرب أبناء جيراننا من أجل ذلك الولد؟ هل تعرفه؟. قال: إنه من قبيلتنا، ولم ينته من حديثه حتى جاء أبناء جيراننا وضربوه، وحدثت معركة أخرى. كان أحد الرجال ذاهباً للمسجد فشاهدهم وحل ذاك النزاع. أثناء ذلك سألت ابن جيراننا الصغير الذي كان يشاهد المعركة بحماس: لماذا يضربون أخي؟ هل سمعوه؟! فقال: أبناء عمكم ضربونا في الملعب. فكان جوابي له: أبناء عمي في الجبل، لا أحد منهم يسكن هنا، كيف ضربوكم في الملعب؟!فقال: أبناء عمك يعني من قبيلتكم. وذهبوا جميعاً وتركوني مشدوهة على عتبة بيتنا القديم! أضفت إلى قاموسي الظفاري مفهوماً جديداً: قبيلتنا. قبيلتكم. كبرت وعرفت أن مجتمعنا الظفاري قائم على أساس قبلي طبقي، والطبقات القبيلية فيه مقسمة إلى ست طبقات: السادة الأشراف، القبائل الارستقراطية صاحبة الأرض والنفوذ القبلي التي تحمل السلاح، المشايخ أهل العلم والدين، القبائل المستضعفة التي امتنعت عن حمل السلاح والثأر، البحارة وأخيراً العبيد. لايزال المجتمع في ظفار محافظاً على هذه التركيبة الطبقية ويقيم على أساسها كثيراً من أمور حياته. تتوزع هذه الجماعات في ظفار بمدنها وجبالها وباديتها. نعم، كنت دائماً أتذكر أن في اليوم التالي للمعركة الحامية بين أخي وأبناء جيراننا كانوا يلعبون معاً، وحين قلت له بصوت خافت: كيف تلعب معهم؟ لقد ضربوك وضربوا أبناء قبيلتنا. قال مشكلة وانتهت خلاص سدينا. فعدت للجلوس على عتبة بيتنا أراقبهم وهم يلعبون، ولم يلبثوا حتى تحول اللعب مرة أخرى لمعركة جديدة. ما كان مني إلا أن دخلت وأغلقت الباب من دون أن أخبر أحداً من أهل البيت.
كفوف الجبال
كنت كل صباح وأنا أنتظر باص المدرسة الكبير، أطالع خلفي وخلف بيتنا، لأشاهد تلك الجبال العالية من خلفنا. ثم أتنفس بعمق. كنت أحبها كثيراً.شعور غريب لن يفهمه إلا من عايشه. ياااااه، كم كنت ومازلت أحب جبال ظفار. وكم يزاد تعلق القلب بوطنٍ لم يسكنه. منذ كان بالإمكان التذكر كنت أعرف أني أصلاً من الجبال ولست بنت مدينة. أتذكر يد عمي ونحن ننزل من السيارة عائدين من السوق وهو يشير للجبال. يقول مبتسماً: نحن يا أولاد من كفوف الجبال.حينها كنت أضحك، وأنظر بشوق إلى تلك الجبال الشاهقة. لكني بعد سنين سألته: يا عم هل للجبال كفوف؟! فقال: نعم الجبال شايلة ظفار والظفاريين على كفوفها. جميلة هي وساحرة جبال ظفار، ولها قدرة غريب على التحول من صخور صلبة جافة، إلى مروج خضراء في فصل الخريف، لا تصدق أبدا إذا أتيت قبل هذا الموسم لها أن تلك الصور التي تعرض في التلفاز وتنشر في المجلات عن خريف صلالة صحيحة، ولا يلام من تسرع في تكذيبها.لكن عليه أن يعرف أن سر ظفار الحقيقي في تلك الجبال، وقوة ظفار الحقيقية في قوة تلك الجبال.تقسم المنطقة الجبلية إلى ثلاث مناطق:.1 المنطقة الشرقية (جبل سمحان)..2 المنطقة الوسطى (جبال القرا)..3 المنطقة الغربية (جبل القمر).«وتمتد هذه المنطقة خلف السهل الساحلي في صلالة على شكل هلال بالقرب من خط طول (55) درجة شرقاً، وهي مكونة من سلسلة جبال (القرا) التي تتراوح ارتفاعها بين 900 و1500 متر فوق سطح البحر، حيث يوجد في القسم الشرقي منها جبل يسمى (جبل سمحان). ويتراوح عرض جبال (القرا) التي تحد منطقة الربع الخالي من ناحية وتتصل بحدود الجمهورية اليمنية الشعبية من ناحية أخرى مسافة تتراوح بين 30 و50 كيلومتراً تزهر كلها بالخضرة الجميلة في موسم الخريف». [6] اليوم بالطبع بتُّ أعرف أنه تسكن هذه الجبال قبائل القرا وهي حالياً 14 قبيلة.لقد كبرت يا عمي وبت أعرف كثيراً عن كفوف الجبال وعن كل ظفار. لكني مازلت كلما نظرت لتلك الجبال من بعيد أخذت نفساً عميقاً أنسى معه كل هموم الدنيا.
رابط المقال:http://www.alwaqt.com/art.php?aid=88910
[1] الريس: الجانب الآخر للتاريخ ,2007 ص .117
[2] أحمد محاد المعشني: فنون العمارة التقليدية في ظفار، ط,1997 1 ص .53
[3] سالم مقيبل: بحث غير منشور بعنوان ثورة ظفار 1965-.2001 ,1975
[4] المرجع السابق.
[5] جبهة تحرير ظفار: بيان إعلان الكفاح المسلح (9 يونيو/ حزيران 1965).
[6] أ.د خالد يحيى العزى: سلطنة عمان الواقع التاريخي والحضاري دراسة ومشاهدات، ص .