التجربة التربوية لثورة ظفار
في سلطنة عُمان (1992-1969)
إنهاء الرّق وتحرير المرأة وتنوير المجتمع 4-3
شكلت النظرة الدونية وفق تحليل الثورة التي تقوم على أساس الطبقة العاملة والنظرية الماركسية اللينينية أهم التحديات الاجتماعية والتربوية التي ستواجه الثوار الاشتراكيين. فقامت الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي بجعل شباب القبائل يقومون بعدد من الأعمال اليدوية، مثل الزراعة، وبناء الجسور والسدود، وحفر الخنادق، وشق الطرق. وكان من أهم الأعمال التي قام بها جيش التحرير الشعبي الذي يشكل أبناء القبائل غالبيته العظمى: الزراعة.''وكمعظم القبائل كان سكان الريف الظفاري يعتبرون الزراعة شيئا غير محبب.. بعد مؤتمر حمرين شكلت اللجان الزراعية لتوجيه المواطنين باتجاه العمل الزراعي لتوفير الغذاء اللازم بالاعتماد على النفس. وقامت قوات جيش التحرير بمساعدة المواطنين في العناية بالأرض وتجهيزها للزراعة، والقيام بالزراعة وجني المحصول بشكل جماعي. كما قامت قوات الثورة في عدد من المناطق بإقامة السدود والخزانات الصغيرة لتوفير المياه للمواطنين من الأمطار التي تهطل صيفًا'' (24).ورغم أن كل هذه الأعمال يدوية وقد قام بها شباب جيش التحرير الشعبي الذين هم أبناء قبائل، فإنهم كانوا يقومون بها ضمن جيش التحرير ولم تكن مهنتهم الزراعة أو البناء بل كانت مهنتهم أنهم مجندون في جيش التحرير، لذلك من حيث اقتلاع النظرة الاحتقارية للأعمال اليدوية لم تنجح الثورة رغم ما قامت به، وإلى الآن ما زال شباب القبائل يعزفون عن العمل اليدوي ويفضلون عنه التجنيد والوظيفة المكتبية.استطاعت الثورة وبعد مؤتمر حمرين تحرير العبيد وإلغاء نظام الرق، الرق بمفهومه القديم الذي يعني تجارة البشر، ولكن كان التحدي الأكبر بالنسبة للثورة هو تصفية بقايا هذا النظام الاجتماعي، من نظرة دونية لأبناء تلك الفئة التي عرفت في ظل ذلك النظام الاجتماعي الظالم بالعبيد ودمجهم في المجتمع بحقوق متساوية مع بقية أبناء المجتمع. فلقد كانت ''أولى مهام الثورة هي التسلل إلى المجتمع الظفاري البدائي؛ حيث تجارة العبيد رائجة ومشروعة، فأصدرت مرسومًا حررت بموجبه العبيد وضمتهم إلى صفوفها. وكان العبد الذي لا يعتقه سيده يهرب ويلحق بالثوار'' (25).--وكانت قضية الرق إحدى أهم القضايا العاجلة للثورة، فتلك الفئة من أبناء المجتمع كان أفرادها هم الذين استطاعوا الهرب والسفر لخارج حدود السلطنة كبقية العمانيين يحاولون تشكيل تنظيم سياسي. فقد ''كان العدد القليل منهم الذين استطاعوا الهرب من قبضة السلطان الذي لم يكن يتهاون أبدًا في سفر هذه الفئة أو هروبها من أغلال الرق يحاولون تنظيم أنفسهم في الخارج لتكوين تنظيم عنصري يمثلهم فقط ويطالب بحقوقهم. ومنذ بداية الخمسينات كان عامر البحريني -وهو من ظفار- يسعى إلى تشكيل تنظيم يحمل اسم الكف الأسود ونجح في ذلك، وعندما تشكلت جبهة تحرير ظفار كان تنظيم عامر خارج التشكيلة؛ لأن طرحه كان عنصريا والجبهة طرحها في المقام الأول إقليمي وإن دان ببعض الولاء لإمامة عمان، ولكن مجموعة الشباب في الكويت الذين كانوا يخططون لطرح وطني ظهر في مؤتمر حمرين استقطبوا هذا التنظيم، بحيث إن مبادئهم وأهدافهم كانت حتى فوق ما يمكن أن يحلم به الكف الأسود. فاستبدل الطرح العنصري بوطني وكانوا فعالين جدًا في المعركة التي خاضتها الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي'' (26).كان المجتمع يمارس نظام النبذ الاجتماعي لهذه الفئة ويرمقها بنظرات الاحتقار والدونية، وهنا كان التحدي كبيرًا في كيفية التغيير التربوي لهذه العقلية الموجودة بين أبناء المجتمع والرافض لمبدأ المساواة والندية بين أبناء القبائل وأبناء الرق. وقد حاولت الثورة من خلال التثقيف واللجان المختلفة القضاء على آثار هذه العقلية في المجتمع، وقد حققت نجاحا في فترة نجاحاتها العسكرية، فلم يكن أولئك الأرقاء السابقون يلقون أي نوع من أنواع النبذ أو حتى مضايقات أو ألفاظ يمكن أن تدل على تعالي أبناء القبائل على هذه الفئة ''فقبل الثورة كان على العبد عندما يخاطب أحد أبناء القبائل أن يقول له: سيدي أو حباب وبعد مؤتمر حمرين كان على أبناء القبائل أن ينسوا هذه الكلمة التي لم تعد تستخدم كما أن كلمة عبد أيضا أصبحت من المحرمات''(27).النظرة للرق داخل مدارس الثورةوتذكر إحدى تلميذات المدارس قائلة ''كنت أتحدث عن أحد الأساتذة وقد كان من الرقيق السابقين، ولم أكن أعرف اسمه فقلت لزملائي ذلك الأسمر ولأن الأغلبية كانوا سُمرًا فقد كانوا يقولون ''فلان'' ويعدون أسماء معلمين آخرين. ففي ذلك الحين كلمة أسمر كانت تستخدم للحنطي البشرة، ولم أرد أن استخدم كلمة أسود أو عبد رغم أنه حينها كان الوحيد في المدرسة من الرقيق السابقين، الأمر الذي اضطرني في اليوم الثاني إلى أن أشير بإصبعي تجاهه ليعرفه زملائي. فقد كنا نرى هاتين الكلمتين -عبد أو أسود- في حد ذاتهما ظلم كبير''(28).وهذه القضية قديمة جدًا في مجتمع الجزيرة العربية.. ففي قصة بلال بن رباح وأبي ذر يروى أن ''حدث شجار يومًا ما بين أبي ذر وبلال بن رباح -رضي الله عنهما- فما كان من أبي ذر غفر الله له إلا أن قال لبلال بن رباح يوم أكرمه الله بالإسلام ''يا ابن السوداء'' فحزن بلال رضي الله عنه كيف يعيَّر وقد أسلم والإسلام لا يفرق بين الناس فكلهم سواسية فما كان منه إلا أن ذهب للرحمة المسداة يشكو له أبا ذر فنادى الحبيب أبا ذر فقال له ''أعيرته بأمه؟! إنك امرئ فيك جاهلية''، فاغتم أبو ذر وقال ''والله أحببت أن تدق عنقي ولا أسمع ذلك الكلام'' فذهب في تواضع جم لبلال وقال له ''هذا خدي أضعه على الأرض ضع قدمك عليه والله لا أرفعه حتى تضعها'' فقال له بلال ''والله ما كنت أضع قدمي على جبهة سجدت لله'' -أو كما جاء في الحديث- فتعانقا وصفت النفوس بين الصحابيين الجليلين رضي الله عنهم''(29).فرغم أن الإسلام يبيح نظام الرق إلا أنه قد هذبه بحيث أزال الحقد بين فئات المجتمع فأبناء المملوكات أبناء شرعيون؛ لذلك قد تصبح الجارية في يوم من الأيام أم الملك، أي الملكة الأم، وهذا كثير في جزيرة العرب كما أنه شجع الزواج بالأمة ''الجارية'' المؤمنة وفضلها على ذات النسب المشركة.وقد ورث الريف الظفاري شيئا من هذه الأخلاقيات في معاملة الرقيق، فكانت معاملة حسنة حتى يكاد لا يميز الشخص العابر بين العبد وسيده إلا من خلال ملامح الوجوه وقول المملوك عند مخاطبة سيده كلمة سيدي، وقد ذكر ذلك برترام توماس (30) في كتابه البلاد السعيدة ''..ووضع الخدم في المجتمعات لا يقل مستوى عن وضع الأحرار'' (31) وربما لا يظهر التميز إلا بمنعهم من الزواج من خارج فئتهم وفي عدم مشاركتهم بأدوار قيادية في الشؤون العامة.والنظام الموجود بالجزيرة العربية في عمومه في فترة قيام الثورة كان يعود لرواسب الجاهلية التي تناقلتها النعرات القبلية.وعندما قامت الثورة بإلغاء الرق واجهت مشكلة بقاء العقلية، فحتى كثير من الزيجات التي تمت فشلت عند انهيار الثورة وعاد الوضع كما هو عليه قبلها من حيث العقلية، صحيح أنه لا رق حقيقيا فلم تعد تجارة البشر موجودة ولكن نظرة الاستعلاء لا تزال موجودة وليس فقط في الجزيرة العربية ولكن حتى في أمريكا التي وصل للحكم فيها أحد أبناء بقايا نظام الرق.وما هو حادث الآن في المجتمع الظفاري هو انهيار النظام القبلي بكثير من محاسنه من نجدة المستغيث، وإجارة المستجير، وصلة الرحم، والشجاعة، والإقدام، وعدم الصبر على الظلم، والتواضع بين الحاكم والمحكوم. وبقي قليل من التكافل وكثير من التفاخر.تحرير المرأة والتنويروتحرير المرأة كان من أهم الأعمال التي قامت بها الثورة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وقد قام الثوار بالعديد من العمليات التي سعوا من خلالها لتعميق فلسفتهم التربوية الهادفة لتحرير المرأة.إن مفهوم الثقافة مفهوم واسع وعميق يتعدى الأيديولوجيا بكثير.. وقد سعى الثوار لغرس الأيديولوجيا الماركسية الثورية وتعزيز الثقافة العربية والحس الوطني في مجتمع يعاني تمزقا وطنيا يجزأ فيه ترابه وتنهار فيه وحدته.فسعت الثورة لنشر الثقافة الوطنية ومحاربة الخرافة والأمية فيما يمكن أن نسميه قيادة حركة تنويرية داخل المجتمع.نشر الثقافة الوطنية الثوريةكانت الثقافة الوطنية التي يحاول الثوار نشرها هي في الحقيقة، ما يمكن أن نقول عنه روح المواطنة.فقد كانت عمان في تمزق رهيب وتآكل في جسدها كإمبراطورية، فقد أخذت منها جوادر وبندر عباس في الخمسينات من القرن العشرين، وطُرد العمانيون من زنجبار وشرق إفريقيا في الستينات من القرن العشرين، والمنطقة الداخلية منفصلة بحكم الإمامة، وظفار غارقة في حروب قبلية أكلت الحرث والنسل، وساحل عمان ''الإمارات'' يعمل الإنجليز على فصله عن الوطن الأم عمان.جاء هؤلاء الشباب وهم مؤمنون بأن إحدى أهم مهامهم هي إعادة الروح الوطنية وبناء وحدة الصف ليس في عمان فقط بل في كل الخليج العربي.وكانوا من خلال كتاباتهم وأعمالهم يسعون لتعميق هذا الخط الوطني ابتداءً من اسم الجبهة التي حملت اسم الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي أو فيما عُرف فيما بعد بالجبهة الشعبية لتحرير عمان ويجعلون من أنفسهم حماة للثقافة الوطنية والوحدة الوطنية فنجد في مقال مذكرات معتقل في سجون السلطنة المنشور في مجلة 9 يونيو الصادرة عن الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي (يوليو- أغسطس 1973م) ''فشعبنا العظيم الذي لم يبخل بأبنائه لن يكون إلا أمينا بتراثه العظيم وأمجاده. وإن علينا أن نصمد لنعلمهم أن الحرية غالية الثمن'' (32).وكان هذا الطرح الوطني لا يلامس مشاعر الشباب من أبناء الشعب فقط، بل إن بعض شباب الأسرة المالكة آمنوا بهذا الطرح وانخرطوا من منطلق الحفاظ على وحدة عمان والسعي لوحدة الخليج في صفوف الجبهة الشعبية، فمن عرف في الجبال الغربية من ظفار بالمرشد طارق هو ''السيد محمد بن طالب البوسعيدي أحد أفراد الأسرة المالكة، عرف منذ مطلع شبابه بحسه الوطني الفياض وسخطه على الاستعمار البريطاني، سافر لبغداد لإكمال تعليمه .1968 وكان من طليعة الشباب المدافعين عن حرية عمان والناقمين على الوجود الاستعماري والتبعية له، انضم للجبهة في ,1969 شارك في ميادين حرب الجبهة في ظفار العام ,1970 حاول فتح جبهة في مسقط لتخفيف الضغط على ثوار ظفار، وفي سبتمبر 1972 مع مجموعة من رفاقه اعتقل وتوفي في السجن في العام نفسه'' (33).كان هناك حس وطني عالٍ لدى هؤلاء الشباب لنشر هذه الثقافة بين جميع فئات الشعب وعلى مختلف مستوياتهم لم يكونوا راضين عن أن عمان تلك الدولة القوية العظيمة آلت إلى ما آلت إليه، وقد واجهوا هذا الشعور المرير بطرح أكبر هو القومية العربية، ووحدة عمان والخليج العربي.وعندما أتى السلطان قابوس للحكم بعد انقلاب ثوري على السلطان سعيد بن تيمور كان الطرح المقبول والمنتشر في أذهان جميع الشباب في عمان هو الطرح الوطني رغم محاولات كثير من قادة الثورة لتعميق الفكر الماركسي على حساب الطرح الوطني.كانت الفلسفة المنتشرة بين فئات الشعب ليست الماركسية بل القومية العربية والوطنية للوطن الكبير عمان من دون تجزئة أو أقلمة، فيذكر أحد أعضاء الثورة في لقاء معه في كتاب صادر العام 1974: ''يحاولون زرع الشائعات عن الثوار بأنهم يحاربون الدين والإسلام ولكن ذلك لا ينطلي على أحد. فقد كشفته الجماهير.. لسنا شيوعيين.. إننا مجاهدون في سبيل الحق''(34).* يتبع
رابط المقال
الهوامش:.
24 علي فياض: مرجع سابق، ص161-.162.25 رياض نجيب الريس: صراع الواحات والنفط هموم الخليج العربي بين 1968-,1971 رياض الريس للكتاب والنشر، ط,3 بيروت ,2004 ص.264.26 أحد الظفاريين الموجودين في فترة الستينيات في الكويت..27 أحد الرجال المعاصرين للثورة من أعضاء الميليشيات..28 إحدى تلميذات مدارس ثورة ظفار..29 http: //www.saaid.net/daeyat/zadalmaad/20.htm، وهو موجود أيضا في صحيح مسلم والبخاري ولكن يذكر أن أبا ذر عيَّر رجلا ولا ذكر لاسم بلال..30 يعتبر برترام توماس أحد أشهر الرحالة الأوروبيين، كما أنه أحد الساسة والدبلوماسيين الإنجليز الذين خدموا في الأقطار العربية، عمل لمدة 13 سنة في السلك الدبلوماسي في العراق والأردن والخليج، في أكتوبر 1910 وصل إلى مسقط في عهد السلطان فيصل بن تركي وأقام في الجزيرة بشكل متكرر منذ العام .1915 عينه السلطان تيمور بن فيصل (1913م-1923) وزيرا للمالية في مجلس وزرائه..31 أحمد محاد المعشني: ظفار عبر التاريخ حصاد الندوة التي أقامها المنتدى الأدبي في صلالة، أوضاع ظفار في كتاب البلاد السعيدة، وزارة التراث القومي والثقافة، مطابع مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر، مسقط ,2000 ص.134.32 الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي: مذكرات معتقل في سجون السلطنة، مجلة 9 يونيو، العدد الرابع، لا ذكر لمكان الإصدار، (يوليو-أغسطس 1973م)، ص.27.33 المرجع السابق: الشهيد البطل طالب محمد البوسعيدي، بتصرف، ص.11.34 الجناحي: مرجع سابق، ص.35