التجربة التربوية لثورة ظفار
بسلطنة عمان «1969-1992»
مسائل القومية والاشتراكية وتحرير العبيد 1-4
لا يزال تاريخ الخليج الحديث أبعد ما يكون عن أن يستكمل، لعوامل عديدة، ربما أبرزها هو حداثته نفسها بما يجعل من تفاعلاته وتأثيراته المتبادلة على المشاركين في صنعه طازجة وحساسة. وبالتالي نشأ اتجاه للابتعاد عنه، وتفادي الإشارة. وبالمقابل برزت محاولات لاستعادة بعض أقسام جزئية منه، ومحاولة إشباع تفاصيلها، ووضعها بين يدي القارئ ليتفاعل معها، ولتستحث محاولات شبيهة.والدراسة التالية هي محاولة للإطلال على التجربة التربوية للحركة المسلحة التي بدأت بظفار العام 1965 واستمر فعلها العسكري لعقد من الزمن أو يزيد. وتشكل الأقسام المنشورة بعضاً من دراسة لنيل درجة الماجستير للكاتبة، وهي من ظفار نفسها. الفلسفة التربوية لثورة ظفاريتعلق هذا البحث بالعمل النقدي المنظم الذي قام به ثوار ظفار بهدف تكوين المعتقدات.فبعد المؤتمر الثاني لجبهة تحرير ظفار والذي عقد بحمرين 1968 لم تعد الثورة مجرد تمرد أو حركة تهدف لتغيير الحكم، بل أصبحت حركة ذات فلسفة تربوية تستهدف المجتمع برمته.وإذا كان مؤتمر حمرين سبتمبر 1968 حدد أيديولوجية الثورة، فإن برنامجي العمل الوطني في ديسمبر ,1971 ويوليو ,1974 رسما المعالم الفلسفية والعملية للثوار الشعبيين.وما تميز به الثوار في ظفار أن مشروعاتهم التربوية لم تكن حكرا على أي من أفراد المجتمع بل كانت سياستهم التربية موجهة للجميع. وهنا سنتحدث عن الأهداف التي ارتكزت عليها الفلسفة التربوية لثورة ظفار، أما فكر الثورة ذاته فيمكننا أن نقول إنه كان مزيجا من القومية العربية والماركسية اللينينية الاشتراكية.مهام الثورة العشرون: 1971 و1974نجد أن برنامج العمل الوطني الصادر عن الثورة في ديسمبر 1971 حدد للثورة عشرين مهمة على الصعيد الداخلي وهي:''تحرير المنطقة من كافة أشكال الوجود الاستعماري وتحقيق الاستقلال الناجز والقضاء على أنظمة الحكم العشائرية الأوتوقراطية.القضاء على التجزئة وتحقيق وحدة المنطقة السياسية (وحدة الجزيرة العربية).القضاء على الإقطاع بكافة أشكاله وتوزيع الأراضي على الفلاحين المعدومين وإقامة التعاونيات والمزارع الجماعية.القضاء على العبودية وتصفية كل بقايا الرق.بناء نظام سلطة الديمقراطية الشعبية.إنهاء سيطرة واستغلال الطبقة البرجوازية الكمبرادورية.تصفية الاحتكارات الأجنبية بكافة أشكالها.تحرير السوق الوطنية من الارتباط بعجلة السوق الرأسمالية العالمية.بناء اقتصاد وطني مستقل ذي قاعدة صناعية وزراعية ثقيلة.إطلاق حريات ومبادرات الجماهير صاحبة المصلحة في الثورة.تعبئة طاقات الشعب سياسيا وعسكريا.بناء جيش ثوري قوي.العمل على إلغاء فوارق التخلف بين الأرياف والمدن.مكافحة الثقافة الاستعمارية والرجعية وبناء ثقافة وطنية ثورية.العمل على تحرير المرأة من كافة أشكال الاضطهاد السياسي والاجتماعي والعائلي.محاربة الظلم الاجتماعي والعمل على توفير العيش الكريم لكل مواطن.محاربة الفساد الخلقي والإداري والسياسي.محاربة الجهل والمرض وكافة مظاهر التخلف في المجتمع.ضمان الحقوق الكاملة للأقليات والجاليات الأجنبية.حرية العقائد والمذاهب الدينية.(3) ثم جاء برنامج العمل الوطني في يوليو 1974 ليحدد ملامح الفلسفة التربوية للثورة أكثر في فقرتيه السابعة والثامنة من مهام الثورة.''...النهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشعب في كافة الميادين وذلك بالوسائل التالية:.1 إلغاء كافة العوائق والقوانين التعسفية التي تميز بين المواطنين على أسس قبلية أو عنصرية أو طائفية أو اجتماعية..2 مساواة المرأة بالرجل في كافة الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية وتقديم كافة المساعدات والتسهيلات للحركة النسائية من أجل النهوض بالمرأة وجعلها تشارك بفعالية في قضايا الوطن وبنائه..3 الاهتمام بأوضاع الشباب والسماح لهم بإنشاء التجمعات والاتحادات، وتقديم التشجيع لهم ورعاية مصالحهم وتسخير إمكاناتهم الهائلة لخدمة الشعب والوطن..3 تقديم الخدمات الصحية وجعلها مجانا لكل المواطنين، وإقامة المستشفيات والمستوصفات في سائر مناطق عمان بما في ذلك الأرياف والمناطق النائية..5 الاهتمام ببناء المدن في الأرياف وتقديم التسهيلات للمواطنين لبناء مساكن لائقة وصحية وإلغاء كافة القوانين التي تحرم على المواطنين البناء في بعض مناطق عمان وتوصيل المياه والكهرباء إلى المدن والقرى والأرياف..6 تشجيع الحركة الاجتماعية وإلغاء كافة القوانين التعسفية التي وضعها المستعمِرون والنظام العميل على الأندية والجمعيات والسماح للأهالي بممارسة نشاطهم الاجتماعي بكل حرية..7 تطوير وسائل المواصلات والنقل في كل البلاد بما في ذلك المناطق الريفية والجبلية والمناطق النائية والبوادي..8 الاهتمام بأوضاع الرعاة وصيادي الأسماك وتقديم كافة أشكال الخدمات والتسهيلات لهم.- مكافحة الجهل والثقافة الاستعمارية وبناء ثقافة وطنية. ومن أجل ذلك لابد من تحقيق التالي: .1 إلغاء كافة مناهج التعليم الخنوعة والرجعية المتبعة حاليا في عمان وتنمية الثقافة الوطنية المستمدة من تاريخ شعبنا وأمتنا العربية المجيدة، ووضع مناهج تقدمية للتعليم تستهدف بناء جيل وطني متعلم وملتصق بقضايا الشعب ونضالاته وتطلعاته للمستقبل..2 تحقيق إلزامية التعليم وجعله مجانا للجميع في كافة المستويات التعليمية..3 إقامة المدارس والمعاهد الصناعية وإقامة جامعة وطنية تضم المعاهد الكفيلة بتخريج الكوادر الفنية ضمن خطة شاملة لتنمية الطاقات البشرية والمادية للبلاد..4 العمل على مكافحة الأمية التي تشمل حاليا الأغلبية الساحقة من شعب عمان والسعي بنشاط وضمن خطة مبرمجة للقضاء على هذا المرض. .5 السماح للطلبة بتشكيل اتحاداتهم الطلابية للدفاع عن حقوقهم ولتطوير أدوارهم في خدمة قضايا الشعب والوطن..6 الاهتمام بالفنون الشعبية، والمحافظة على التراث الحضاري لعمان.(4) الفلسفة التربوية لثورة ظفارنجد أن على صعيد التغيير التربوي كان على عاتق الثورة مهمتان، أي يمكننا القول: إن الفلسفة التربوية لثورة ظفار ارتكزت على هدفين:.1 التغيير السياسي الاجتماعي والذي كانت أهدافه تتمثل في:- التغيير السياسي الاجتماعي من خلال إلغاء التمايز الاجتماعي المقام على أساس قَبلي، من حيث وجود قبائل أرستقراطية وقبائل مستضعفة.- القضاء على العبودية وتصفية كل بقايا الرق.- تحرير المرأة..2 نشر العِلم والثقافة الوطنية، وتمثل في:- نشر الثقافة الوطنية الثورية ومحاربة مظاهر التخلف الاجتماعي (حركة التنوير).- محو الأمية.- إلزامية التعليم والعمل على نشره.وعندما نتناول الفلسفة التربوية لثورة ظفار علينا أن نعي أننا لا نتحدث عن مؤسسة تربوية لها هيكل وقيادة ومحصورة في حدود المباني بل نتناول أهداف التغيير التربوية المؤسساتي وغير المؤسساتي، فيما عرفناها بالتربية المدرسية واللامدرسية، إنه نهج ضمن سلسلة من الأعمال ومرتكز على أهداف ثابتة.أولا: التغيير السياسي الاجتماعيالتغيير السياسي في مفهومه البسيط يعني إلغاء سلطة وظهور سلطة أخرى، أو استبدال سياسة بسياسة جديدة، وبهذا فالتغيير السياسي ينتج عنه تغيير لأفراد على هرم السلطة، أو للقوانين التي تحكم دولة، أو مجتمعا ما، وفي مجتمع كالمجتمع الظفاري في تلك الحقبة الزمنية كانت السلطة السياسية نابعة من التركيبة الاجتماعية للمجتمع. و''المجتمع في ظفار ليس بمجتمع المشاعية البدائية وإن كان يحوي مسحة باهتة منها في الملكية المعممة والشاملة لغالبية السكان في وسيلة الإنتاج الرئيسة وهي حيوانات الرعي، وهو ليس بمجتمع الرق وإن كان يتسم بكثير من صفاته؛ حيث آلاف العبيد من الأرقاء المملوكين، ولا هو بمجتمع الإقطاع وإن كان يشمل بعض صفات المجتمع الإقطاعي ولربما الرأسمالي''(5) فكان من الضروري لثوار يريدون أن يحدثوا تغييرا سياسيا واجتماعيا أن يقوموا بالتالي:.1 القضاء على سلطة القبيلة:فالمجتمع في ظفار قائم على أساس قبلي، وهو مقسَّم إلى ست فئات: السادة الأشراف، القبائل الأرستقراطية صاحبة الأرض والنفوذ القبلي التي تحمل السلاح، والمشايخ أهل العلم والدين، القبائل المستضعفة التي امتنعت عن حمل السلاح والثأر، البحارة، وأخيرا العبيد.ولأن الفكر العام لقادة الثورة ماركسي، والنظرية الماركسية تقوم على أساس طبقي عمالي، وحيث إنه في مجتمع ظفار لا توجد صناعات حديثة أو بسيطة لتوجد شريحة عمالية في ذلك المجتمع شبه البدائي القائم على الزراعة والرعي، فإن الثوار كانوا يصفون التركيبة القبلية بأنها نظام طبقي منذ مؤتمر حمرين، معتبرين إياها عدوهم الأول.''وفي أواخر عام ,1970 كلَّفت اللجنة المركزية للحركة الثورية في عمان والخليج العربي البحريني أحمد الشملان بدراسة الوضع الطبقي في ظفار. وقد كانت نتيجة بحث الشملان الذي نُفذ في بداية عام 1971: أنه لا توجد طبقية في ظفار وأن التشكيلة في ظفار قبلية والجبهة الشعبية هناك عبارة عن تحالفات قبلية تحت غطاء الجبهة ولا يوجد عمل تنظيمي حقيقي. وقد أغضبت هذه النتيجة قيادة الثورة؛ لذلك لم ينشر هذا البحث وكان محدود الاطلاع''(6).ما عدا ذلك فقد ظلت الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي تصف الوضع القبلي بالطبقي وتسعى لمحاربته، ونشر الثقافة الماركسية كبديل للقبلية.ربط الثوار لمفهومي القبلية بالطبقيةكان الثوار يصفون النظام القبلي بأنه نظام طبقي وفق النظرية الماركسية رغم أن الفكر الماركسي يقوم على أساس الطبقية العمالية التي يتحكم فيها أصحاب الأملاك بالعمال في نظام صناعي تظهر فيه الطبقة البرجوازية وهي فئة الطبقة المتوسطة بين الفئتين ثم تسيطر فيه فئة الكادحين وتنشأ الدولة على أساس الاشتراكية. والمجتمع الذي تتحدث عنه النظرية الماركسية لا ينطبق على النمط الاجتماعي في ظفار فهو بنظامه القبلي بعيد عن العمال والطبقية المقصودة في النظرية الماركسية. والظلم الاجتماعي الذي كان يحس به كثير من أبناء المجتمع المنسوبين إلى غير فئة القبائل وهم من قادة الثورة ومؤسسيها جعلهم يرون أن الطبقية تتجسد في القبلية.الإمامة كنظام قبلي طبقيوكان الثوار يصفون إمامة عمان وهي حركة ثورية في عمان الداخل تطالب بعودة نظام الإمام والتي فيها الحكم غير وراثي، بل يُختار الإمام من قِبَل شيوخ القبائل وعلماء الدين وينصب على البلاد، كان حتى هذا النظام الثوري والذي يعتمد على النظام القبلي بالنسبة لهم طبقيا، وهم يصفون ذلك بقولهم: ''إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والقبلي في عمان قد أفرز نمطا من البناء الفوقي.. وهذا النمط من البناء الفوقي والعلاقات الاجتماعية والسياسية التي حَكمت فئات الطبقية.. فالتركيب القبلي العشائري وتخلف قوى الإنتاج. والاعتماد الأساسي على الزراعة والصناعات الحرفية البسيطة والعقلية الدينية التي وجدت لها ملاذا من الاضطهاد في هذه المنطقة النائية من الوطن العربي''(7).ومن الناحية الاجتماعية تجاوزا يمكننا القول: إن النظام القبلي نظام طبقي يقسم المجتمع إلى طبقات لا يمكن تجاوزها، ولا يربط الفرد بالإنتاج أو المهنة بل بنسب الآباء والأجداد. ورغم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ''من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه''(8) فإن النظام ظل موجودا في الجزيرة رغم أن الإسلام هذبه ودعا إلى التركيز على فضائله من صلة الرحم والبعد عن مساوئه من كراهية الناس واحتقارهم.''والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول مخاطبا المسلمين عند شفاعة أسامة بن زيد للمخزومية التي سرقت في أن تُعفى من الحد لرفعة نسبها بعد أن قال لأسامة: ''أتشفع في حد من حدود الله؟!''.. وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس خطيبا: ''إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها''(9).وقد كان هذا النظام الاجتماعي بما يحوي ظلما اجتماعيا، خاصة في تراجع دور الدين في الأخلاق الاجتماعية، ما جعل هناك كثيرا من رواسب الحقد بين فئات المجتمع المختلفة، وأعطى القبائل امتيازات كثيرة لمجرد النسب لها. والذي عُزز أيضا بكثرة عدد منتسبي تلك القبائل وقدرتهم على حمل السلاح لترسخ نظام النبذ لبعض فئات المجتمع والحفاظ على امتيازاتهم الموروثة.
الهوامش.
1 عبدالله الرشدان ونعيم جعنيني: المدخل إلى التربية والتعليم، دار الشروق للنشر والتوزيع، بيروت، ,1994 ص53-.54.2
2فرد هاليدي ترجمة: حازم صايغ، سعيد محيو: الصراع السياسي في شبه الجزيرة العربية، دار ابن خلدون، ط,3 بيروت، 1981م، ص245-.246
3علي فياض: حرب الشعب في عمان وينتصر الحفاة، الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، بيروت، 1975م، ص274-.275.4
4المرجع السابق، ص289-.290.
5 عبدالله النفيسي: تثمين الصراع في عمان، دار السياسة، دون ذكر البلد، ,1975 ص.49.6
6 أحمد سالم البريكي في لقاء الباحثة معه في أكتوبر ,2008 أحد قادة ثورة ظفار..
7 الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي: الثورة العمانية 1957م-1959م دراسة نقدية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، مايو 1974م، ص11-.12
8أبــــو داوود: ســــــنن أبــو داوود، النسخــــة الإلكـــترونيـــة مـــن مـــوقــع المكتبــة الإســـلاميـــــة، http: //www.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?bk_no=55&ID=1386&idfrom=6283&idto=6336&bookid=55&startno=1.
أبو زكريا يحيى بن شرف النووي: رياض الصالحين في كلام سيد المرسلين، دار الكتاب العربي، بيروت، 1986م، ص.61